40 – حول سؤال أهل الكتاب
قال تعالى : ((يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ
مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا153)) النساء .
أورد بعض المفسرين
ثلاثة آراء في تفسير هذه الآية :
الرأي الأول :
وهو المشهور ، بل
هو المتبادر من الآية ، وهو أن أهل الكتاب – والمقصود بهم هنا اليهود – قد سألوا رسول
الله محمداً (ص) أن ينزل عليهم كتابا من السماء . أي كتاباً كاملاً دفعة واحدة ، كما
تنزلت التوراة .
ورد عليهم القرآن
ضمنا بأن التوراة لما تنزلت عليهم دفعة واحدة لم يؤمنوا بها ، وردوا على موسى بانهم
يريدون من الله أن يخبرهم بصحة نزولها ، فلما سمعوا كلام الله لموسى ، قالوا أرنا الله
جهرة ، وقد اختصر القرآن الكلام بـ((أَرِنَا اللَّهِ
جَهْرَةً)).
ويمكن التعليق على
طلبهم هذا بما يلي :
1- أن العرب أمة أمية ، ونزول القرآن عليهم دفعة واحدة لا يمكن لهم أن يقرأوه ،
لأنهم يعتمدون على السماع و الحفظ ، فكان الإنزال تدريجياً أكثر مناسبة لحفظهم ، وحسب
الروايات فإن بعض الصحابة كانوا يحفظون القرآن عشر آيات عشر آيات ، فإذا عملوا بما
حفظوا جاءوا ليحفظوا عشر آيات آخرى ((قُرْآناً
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً 106)) الإسراء.
2- أن القرآن الكريم ينزل حسب الحوادث في كثير من الأحيان ، وذلك يؤكد نبوة النبي
(ص) وليتماشى مع احتياجات الأمة ، فليس هو كتاب قوانين و مواثيق ليكتفى بنزوله دفعة
واحدة .
ونزول التوراة دفعة واحدة سبقته معاجز تؤكد نبوة موسى (ع) مع فرعون بلغت تسع
معاجز أو اكثر ومن أهمها شق البحر بالعصا و ذلك أمام مراى بني اسرائيل . أما القرآن
فهو المعجزة الرئيسية للنبي محمد (ص) .. وقد تحدى الناس ولا يزال يتحداهم بأن يأتوا
بعشر سور من مثله و يدعوا من يستطيعون من دون الله .
3- أن نزول القرآن نجوماً كان تثبيتاً لرسول الله (ص) عن طريق استمرار ارتباطه
بالسماء ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلا 32)) الفرقان . هذا الارتباط بدون مواعيد للمناجاة بل أن
كل نزول للآيات هو موعد مع الله سبحانه و تعالى .
الرأي الثاني :
أن اليهود قد طلبوا
أن ينزل عليهم كتاب خاص بهم غير القرآن .. وهذا لا يمكن الاستجابة إليه ، لأن الرسول
جاء لجميع الناس و ليس لفئة خاصة والقرآن فيه الكفاية وهو هداية للناس جميعاً.
وطلبهم هذا يحمل غروراً
كبيراً .. ولم يلقوا من غرورهم هذا إلا الاندحار ، فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً
من جميع الملل و النحل ، وكفروا (أي اليهود المعاندون) واستغنى الله والله هو الغني
الحميد .
الرأي الثالث :
أن اليهود قد طلبوا
أن ينزل الله عليهم كتابا يخبرهم بصحة نبوة النبي محمد (ص) حتى يؤمنوا بذلك .. ولا
أدري كيف يتم هذا الأمر فإذا نزل على النبي محمد لن يصدقوه وسوف يريدون على ذلك برهانا
جديداً ، وإذا نزل على آخر فهو نبي آخر ولا يكون هذا ، ولم يجر في سنن الأنبياء من
قبل أن ينزل كتاب على شخص آخر ليؤيد نبوة نبي غيره .. هذا أمر غريب ، ولا أتصور أن
هذا الرأي مطروح بل ربما يكون من تمحل المفسرين .. وعلى أي فجوابه قد سلف في أن الرسالة
المحمدية عامة .. وقد اقتنع بها الناس ، وبان خسران من وقف ضدها.
وعودة للآية :
((فَقَالُواْ
أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ
الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا
مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا153)) النساء ، إن الله سبحانه و تعالى ((لاَّ
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ103)) الانعام ، ولما تجلى نور في جبل الطور ، فليس الذي تجلى هو الله سبحانه
وتعالى ، رغم ورود الآية : ((يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ9)) النمل ، فهو من المتشابه أو من المجاز الذي يرد إلى المحكم
كالآية ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103)) الانعام . فإن
الله لا يحويه مكان ولا زمان فهو خالقهما و خالق كل شيء ، وهو أكبر من ذلك كله و أعظم
.. فالذي تجلى للجبل ليراه موسى هو نور خلقه الله ، كما خلق الكلام الذي خاطب به موسى
.
وموسى يعرف ذلك فهو
نبي مصطفى من الله سبحانه وتعالى ، لا يطلب ما يخالف الاعتقاد فلما قال موسى : ((أَرِنِي
أَنظُرْ إِلَيْكَ143)) الأعراف . كان ذلك على لسان قومه ، بعد أن
ضاق بهم ذرعاً ووعجز عن اقناعهم – حتى مع سماع المناجاة كما تشير بعض الأقوال – فأراد
موسى (ع) أن يريهم الأمر على الحقيقة ، وربما لم يكن موسى يعلم أن هذا السؤال سيؤدى
بهم أن تأخذهم الصاعقة ، وتأخذه هو أيضاً ، وإن لم يمت مثلهم .
والسؤال عن الرؤية
كان واحداً ، فلم يثبت أن موسى سال ربه مرتين ، والذي رأى الصاعقة تحل عليه ((وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا143)) الأعراف ، لا يمكن أن يكرر الأمر لتحل الصاعقة عليه
و عليهم .
ولو تدبرنا الآية
المباركة : ((فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ 153)) النساء ، لوجدنا
أن سؤالهم أرنا الله جهرة اعتبره الله عزوجل ظلما و انزل عليهم الصاعقة عقابا على هذا
الظلم . ونعرف أن الأنبياء عليهم السلام غير ظالمين ، وموسى (ع) في طليعة هؤلاء الأنبياء
لأنه من أولى العزم فهو ليس ظالما . وذلك حسب ما وضح لنا دعاء ابراهيم (ع) وجواب الله
له : ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124)) البقرة .
سؤال :
كيف قال الله سبحانه
وتعالى عن الذين سألوا محمداً (ص) بأن ينزل عليهم كتابا من السماء ، كيف قال عنهم
((فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ 153)) النساء . مع أن الذين سألوا موسى هم آباؤهم الأولون وليس السائلين ؟
الجواب : إن الله
سبحانه و تعالى نظر إليهم كأمة واحدة هي أمة اليهود حيث أنهم يسيرون على منهاج الأولين
أو يزعمون ذلك .. وأن هؤلاء الأولين الذين ضرب الله بهم المثل لم يكونوا على خط موسى
و نهجه القويم وإنما هم مشككون و محتجون عليه وظالمون لم يقتنعوا برسالة موسى (ع) ولا
بكتابه المنزل دفعة واحدة .. ويهود المدينة ساروا على نهج أولئك وكذبوا محمداً (ص)
فهم هم و إن تبدل الزمان و المكان .. لأنهم رضوا بأفعالهم .
وعندنا أحاديث في
الأمة الإسلامية تشير الى هذا المعنى ، منها عندما سأل أحدهم الإمام الصادق (ع) : كيف
إذا ظهر الحجة (عج) يقتل ذراري آل أبي سفيان ، فإذا أجرم الآباء القدماء فما ذنب الأبناء
؟ فأجابه الإمام إنهم رضوا بأفعالهم فأصبحوا مثلهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق