15- الردة
قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) 54 المائدة .
هذه الآية الكريمة تتحدث عن إمكانية ردة المؤمنين عن دينهم .. وفيها خطاب عام للمؤمنين ، لا يختص بفئة منهم ، كما لم يوجه أصلاً الى المنافقين ، فالاترداد غير النفاق ، لأنه المنافق يظهر الإسلام و يبطن الكفر أما المرتد فإنه يبطن الكفر و يظهره .
والعجيب من الكثيرين الذين تعرضوا لتفسير القرآن أنهم فسروا الردة بما وقع من بعض المسلمين في اليمن و الجزيرة العربية مع أن هؤلاء قد ارتدوا في عصر النبي (ص) وهم :
1- الأسود العنسي : تنبأ باليمن ، وأخرج عمال رسول الله (ص) منها ولكنه قتل قبل وفاة النبي (ص) بيوم واحد.
2- مسليمة الكذاب : ادعى النبوة و كتب إلى محمد (ص) :
(من مسليمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني شريك معك في الأرض بيننا مناصفة) وقتل في عهد أبي بكر.
3- طلحة بن خويلد : ادعى النبوة ثم عاد و أسلم .
أما سجاح فقد ادعت النبوة في خلافة أبي بكر ، وتزوجها مسليمة .
وقال أبوالعلاء المعري في هذا الزواج :
أمست سجاح ووالاها مسليمة كذابة في بني الدنيا و كذابا
فهل المعنى بالمرتدين في السورة هؤلاء فقط ؟
يقول الطبري عند تفسيره للآية أن الآراء التي أوردوها حول تفسير الآية هي كلها تأويلات ومحاولة تطبيق الآية على مصاديق الردة المشهورة (يعني ما سلفت الإشارة إليها) انتهى.
بل أخذ كل قوم يفسرون القوم الذين سيأتي بهم الله يحبهم و يحبونه أنهم من قومهم دون بقية الناس فمنهم من فسرها أنهم أبوبكر وأصحابه أو أبوموسى الأشعري و أصحابه ، او أهل اليمن كلهم أو الأنصار وهكذا وبغض النظر عن هؤلاء القوم إلا أننا نبحث في أصل الردة ، فهل بقية المؤمنين معصومون من الردة مع أن الآية مطلقة ، وقد وردت آيات أخرى في نفس الموضوع.
ففي سورة البقرة : ((وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 217)) .
والآية هذه نزلت ضمن آيات في أول الهجرة ، على رأس 17 شهراً منها وهي غير مختصة بالفئات المشار إليها في الردة ، بل هي عامة ، وفيها تهديد لمن يرتد عن دينه ، وقد خلت من القوم الذين سيأتي بهم الله .
فالقوم الذين سيأتي بهم الله ليس ليحارب بهم المرتدين ، بل يبين الله أنه غني عن هؤلاء المرتدين 0 وهو الغني الحميد – وأنه سبحانه و تعالى سيبدل بهم قوما يحبهم و يحبونه كما هو شان الآية ((وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ 38)) محمد .
والملاحظ للآيتين في المائدة و البقرة أنهما قد جاءتا على سبيل الشرط مما يعني الإطلاق فيهما ، فمتى تحقق الشرط تحقق الجزاء ، سواء بالخلود في النار أو بالاستبدال.
وهذا يختلف عن الآية ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ 90)) آل عمران. فإن هذه الآية يمكن حملها عن الاخبار على جماعة كفروا ولم يتوبوا كما ورد في أسباب النزول.
وكذا الآية : ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً 137)) النساء.
فقد يمكن قصرها على الاخبار عن فئة معينة حالها حال الآية 90 في آل عمران . ومما يؤكد أن آيتي البقرة و المائدة فيهما إطلاق ، وأنهما خصوصاً المائدة ليست في مورد المرتدين في أواخر عهد النبي (ص) فحسب ، بل ولا حتى في بعض من فسرت فيهم زمن الخليفة الأول ، يؤكد هذا ما رواه أبواسحاق الثعلبي في تفسيره بالاسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : (يرد علي قوم من أصحابي يوم القيامة فيُجلون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي أصحابي ، فيقال ؛ إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى).
المصدر : مجمع البيان للطبرسي 3/294. أنتهى .
أقول :
إن الذين يُجلون عن الحوض هم من أصحاب رسول الله (ص) وأنهم ارتدوا وإذا ابعدوا عن الحوض فبالبداهة يدخلون النار ، ومن ثم فهم من مصاديق الآية ((وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 217)) البقرة .
وعليه فأن صحبة النبي ليست مانعة من النار لمن خالف النبي (ص) ، والعجيب أننا لا نرى في عموم الصحابة بعد النبي من أعلن الكفر الصراح ، فلعل الحديث يحمل على أنهم قد جاءوا بأعمال خلاف النبي (ص) لذا عبر عنهم الحديث (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك).
كما يدل على هذا التحذير النبوي الذي أطلقه في منى – في حجة الوجاع – فقد أورد ابن كثير في تاريخه في حوادث السنة العاشرة (5/213) عن البخاري بسنده الى أبي بكرة قال : خطبنا النبي (ص) يوم النحر فقال : ..... – حتى قال – : (فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). وهذا تحذير عام للمسلمين ، وليس لفئة منهم .
وجدير بالذكر أن قتال المسلمين بعضهم لبعض لا يعني بالضرورة أن كلا الفئتين على باطل ، بل ربما تكون احداهما على باطل و الأخرى على حق ، كما ورد في الآية ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ9)) الحجرات .
وكما نقل أن الحسن البصري – وهو شاب – رآه الإمام علي (ع) يسرف في الماء في الوضوء، فنهاه عن الاسراف ، فأجابه متهكما : إنك تسرف في دماء المسلمين ، فقال له الإمام بما معناه : فلماذا لم تنصر المحق منهما ، فقال : أردت ذلك فسمعت هاتفا يقول : إن القاتل و المقتول في النار . فقال له الإمام ذلك إبليس قد لبس عليك و إنه لم يكذب فالقاتل و المقتول من أعداء الإمام الحق في النار.
أنواع الردة :
1. الردة الكلية
2. الردة الجزئية
3. النفاق ردة
4. إحداث ما لا يرضى الشرع ردة
أولاً : الردة الكلية :
وهذا ما تمثل في العنسي و مسلمية و سجاح و طلحة بن خويلد و اتباعهم .. الذين انكروا الاسلام و جاءوا بالكفر من ادعاء نبوة أو بدع خلاف الدين ، ادّعوا أنها شريعة ، أو أكاذيب مزورة ادّعوا أنها آيات ، و المتدبر في ما جاء إلينا منها يعرف أنها نكات و فكاهات.
ثانياً : الردة الجزئية :
وهؤلاء أمثال الذين قيل أنهم أنكروا الزكاة .. أو الذين ينكرون أي ضرورة من ضرورات الدين كالصلاة أو الحج أو ما شابه . وهل تدخل الولاية في ذلك بحيث من ينكرها يكون مرتداً ؟ ورد في الحديث : ( ارتد الناس إلا ثلاثة) وورد أنها من ضرورات الدين ، إلا أن المتكلمين اتفقوا بأن الردة عنها ردة عن المذهب لا ردة عن الدين .
وجزاء الردة الجزئية هو جزاء الردة الكلية .
وهناك أمر لابد من الانتباه إليه ، وهو الفرق بين المنكر بضرورة من ضرورات الدين ، وبين المؤمن بها ولكنه لا يعمل بها تقصيراً . ففي الحالة الأولى يحكم عليه بالردة ، أما في الحالة الثانية فيحكم عليه بالفسق ، فمنكر الزكاة مثلاً مرتد ، أما الممتنع من دفع الزكاة – لغير عذر شرعي – فهو فاسق.
ولكن ورد في الحديث بالنسبة للصلاة تشديد ، حيث ورد أن ليس هناك فرق بين المؤمن و الكافر إلا ترك الصلاة ، كما ورد أن تارك الصلاة – بعد عقابه مرتين – يقتل في الثالثة ، أما المرأة فتخلد في الحبس.
ولعل هذا الأمر خاص بالصلاة لأهميتها في الشرع الإسلامي.
ثالثاً : النفاق ردة :
رغم أننا فرقنا في بداية البحث بين الردة و النفاق ، إلا أنه يمكن أن يلحق النفاق بالردة لا سيما إذا كان الإنسان مؤمناً ثم تحول إلى منافق ، فهو فعلاً ارتد عن الإيمان ، وترتدى الى هوة النفاق. وهذا ما يمكن حمل الحديث الذي يشير الى بعض أصحاب رسول الله أنهم يجلون عن الحوض – فقد يكون نفاقهم أحد وجوه الردة خصوصاً أننا لم نسمع عنهم التصريح بالكفر . نعم ورد عن أحدهم (أللهم إلا دفنا دفنا) يعني لذكر الله رسول (ص) ، إلا أن الحديث في تعبيره (أصحابي) يعني أكثر من واحد .
عقاب الردة :
عقاب الردة في الآخرة هو نار جهنم كما نصت عليه الآية (217 البقرة) ولكن الحديث عن العقاب في الدنيا ، فالمتفق عليه أن العقاب هو القتل ، واختلف في الجزاءات الاخرى ، فقد ورد أن بعض الصحابة قد أحرقوا بعض المرتدين ، غير أنه لم يثبت في الشريعة العقاب بالنار في الدنيا ، فلا يعاقب بالنار إلا رب النار ، وعليه فهذا التصرف موضع نظر .
وما نقل عن الإمام علي (ع) في أنه قد احرق المغالين – الذين يزعمون أنه إله – أحرقهم بالنار ، نقل لم تثبت صحته ، فما فعله الإمام علي (ع) هو أنه وضعهم في حفر مغطاة و أوقد النار في حفر أخرى ليصل إليهم الدخان تخويفاً لهم حتى يرجعوا عن غيهم و ضلالتهم ، فلما يئس من رجوعهم و توبتهم أمر اخرجوا فقتلوا .
وعلى هذا الأساس فإن ما ورد من أن اللائط للذكر إما أن يقتل أو يلقى عليه جدار أو يحرق بالنار موضع نظر لاسيما في الحرق بالنار ، والأمر يحققه المختصون.
الردة المعاصرة :
لما توصلنا إلى أن في آيتي (217 – البقرة و 54 – المائدة) إطلاق فإن ذلك يعني أنهما تجريان مجرى المكان و الزمان . وبدون شك فإن الردة تحدث في زماننا ، وهذا ما لا يختلف عليه إثنان .
وحكم الردة واحد ، ينفذ بأمر الحاكم الشرعي متى أمكن ذلك . أما إذا لم يمكن ذلك ، وتاب الفرد المرتد ، وكانت توبته متأخرة طويلاً عن ردته فهل تجري عليه أحكام الردة حتى بعد توبته ، كأن تبين منه زوجته ويحتاج بعد توبته إلى عقد جديد ؟
سؤال يطرح على الفقهاء .
هل اعتناق الأحزاب الإلحادية ردة ؟
هناك العديد من الأحزاب الإلحادية دخل فيها العديد من الناس لقناعات مختلفة بعضها إلحادية و بعضها اجتماعية أو اقتصادية فما لا شك فيه إذا ألحد الإنسان و أنكر الدين كلاً أو ضرورة من ضرورات الدين كما أشرنا إليه ، فإنه يحكم عليه بالردة .
أما إذا كان مؤمنا بالله سبحانه و تعالى و بالدين ، ولكنه تصور أن الإنضواء تحت هذا الحزب من شأنه أن يحقق مكاسب للعمال ، أو ينمي الاقتصاد وما شابه هذه الأمور دون مساس بالدين – فهذا لا يمكن أن يرمى بالردة ويمكن العمل على توضيح الأمور له بأن الخير في الاسلام و تشريعاته على المستوى النظري و أن التخلف الحاصل هو من المسلمين الذين لا يعملون على تطبيقه و إيجاد الحلول للأمة على منهاجه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق