14- لماذا التدرج في الواجبات أو المؤاخذات الشرعية؟
قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91))المائدة.
ما نريده من الآيات الشريفة هذا هو ما يتعلق بتحريم الخمر ، ودعوى التدرج في تحريمها .. ونحاول أن نطرح التدرج هنا بشكل عام .
فالتدرج في الشريعة جاء في مناحٍ عدة ، يمكن أن نشير إلى اثنين منها :
1- التدرج في الواجبات
2- التدرج في المؤاخذة على بعض المحرمات
أولاً : التدرج في الواجبات
ما كان الإسلام ليأخذ المسلمين بفرض الواجبات دفعة واحدة وهم قريبو عهد بالجاهلية ، ولكنه كان يتدرج معهم شيئا فشيئا حتى يعتادوا على ذلك فيهون عليهم الأمر ..
نجد هذا مع بداية الدعوة في مكة المكرمة فلم تكن هناك واجبات على الذين يدخلون في الاسلام .. حتى الصلاة لم تفرض إلا في السنة السابعة من البعثة .. نعم إن النبي (ص) قد صلى من أول البعثة وصلت معه خديجة و علي (ع) ، فربما كانت الصلاة واجبة على النبي وحده و مندوبة على علي و خديجة ، وربما واجبة عليهم وحدهم تكريماً من الله لهم أهل البيت .
وهكذا تدرج الأمر في فرض الصيام والحج .. و تكاملت الفرائض كلها في المدينة المنورة على هذا النحو .
بل إن التدرج قد يتناول الفرض نفسه كالصلاة .. فقد فرضت الصلاة في البداية ركعتين ركعتين فلما تعود عليها المسلمون وانتقلوا الى المدينة أتمت في السفر و بقيت قصراً (أي ركعتين) في الحضر.
يريد الله بكم اليسر
لا يعني أن التدرج في زيادة الواجبات هو القاعدة ، بل القاعدة المتبعة هي قاعدة اليسر .. فإن الواجب لابد أن يكون مقدوراً عليه ، ويستثنى منه غير القادر – على طريقة : من لم يستطع - ، وربما يرد الأمر في تخفيف الواجبات التي استصحبت من الأديان أو العادات السابقة لتكون مقدوراً عليها و ميسورة .. كما رأينا في فرض حج التمتع على الآفاقي السنة العاشرة الهجرية ، حيث فرض حج التمتع الذي هو أخف من حج الإفراد .
و كذا الحال في الصيام ، حيث ابيح للصائم الأكل و الشرب طوال الليل حتى و إن نام أثناء الليل ، على عكس ما كان متبعاً في بداية الصيام من عدم جواز الإفطار بعد النوم ليلاً إن لم يفطر قبله .
وكذا الأمر في إباحة الجماع ليلاً للصائم.
والأمر نفسه في ما يتعلق بحداد المرأة على زوجها المتوفى .. حيث اختصر الى أربعة أشهر و عشراً . وفي الظهار حيث يمكن الغاؤه بالكفارة .
ثانياً : التدرج في المؤاخذة على المحرمات
يمكن معرفة موقف الإسلام من المحرمات على نحوين :
1- الفعل المحرم الذي له بديل :
وذلك كالزنى ، فإن إشباع الشهوة الجنسية بالزنى له بديل شرعي و هو الزواج .. وعليه لا داعي للزنى لأن الاشباع بالحلال متوفر .
وهذا النوع من المحرم – الزنى – يحرم دفعة واحدة و يوضع الجزاء ضد مرتكبه.
ويلحق به الفعل المحرم الذي يمكن التخلي عنه بدون صعوبة لعدم ارتباطه بالناحية الجسدية و الطبيعية ، كالقمار مثلاً فترك القمار لا يؤثر جسدياً على الانسان ، ومن ثم فيحرم دفعة واحدة و يجازى المرتكب له على فعله .
2- الفعل المحرم الذي ليس له بديل :
فهو ليس من الحاجات الغريزية للإنسان وإنما نشأ نتيجة تعود الانسان عليه ، غير أنه تحول الى عادة فسيولوجية يصعب على من يقوم به أن يتركه دفعة واحدة .
فالخمر ليس من الحاجات الغريزية للإنسان ... فلم يضع الإسلام له بديلاً .. وبما أن شاربه قد تعود عليه فإن إقلاعه عن يحتاج إلى مدة طويلة و مران حتى يصل الى القدرة التي تمكنه من تركه .. كما هو الحال في المخدرات حيث يوضع للمدمن عليها برنامج تخفيفي وعلاجي حتى يقلع عنها نهائياً .
كيف عالج الإسلام هذا الأمر ؟
هناك كلام كثير أن الإسلام حرم الخمر بالتدرج فابتدأ بتبغيضها إلى الناس ، ثم بالنهي عنها في الصلاة ، ثم تحريمها .
ولنسق لهذا الرأي ما نقل عن عبدالله بن عمر فقد روى الطبري في تفسيره (2/434) بسنده إلى أبي توبة المصري قال : سمعت عبدالله بن عمر يقول : أنزل الله في الخمر ثلاثاً . فكان أول ما أنزل : ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ 219)) البقرة . فقالوا : يارسول الله ننتفع بها و نشربها كما قال الله عزوجل في كتابه . ثم نزلت هذه الآية : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى 43)) النساء . قالوا يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة . قال : ثم نزلت : ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ 90)) المائدة . قال : فقال رسول الله (ص) : ( حرمت الخمر).
و وردت عدة أقوال من بعض الصحابة و المفسرين تدور حول نفس هذا المعنى .
ولكن رد على هذه الآراء بأن الخمر حرمت من نزول أول آية فيها و هي ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ 219)) البقرة في المدينة المنورة فبين فيها أن في الخمر إثماً .. وقد نزلت قبل هذه الآية وفي مكة : ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ 33)) الأعراف .
فبينت أن الإثم محرم ، والخمر فيها إثم .. إذن فهي حرام .. وهذا النص تحريم واضح لا شبه فيه .
وقد أورد الطبري في تفسيره (2/432) عن ابن عباس : ((قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)) يعني ما ينقص الدين عند شربها .
ثم نقل عن السدي : من زوال عقل شارب الخمر حتى يعزب عن معرفة ربه ، وذلك أعظم الآثام .
ويقول صاحب مجمع البيان (2/67) في تفسيره للآية 219 من سورة البقرة : قال الحسن البصري : في الآية تحريم من وجهين :
إحداهما : قوله : ((وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)) فإنه إن زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه .
والثاني : أنه بين أن فيهما إثما ، وقد حرم الإثم في آية اخرى فقال : ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ)) وقيل إن الخمر يسمى إثما في اللغة . انتهى.
وعليه فقد اتضح أن الخمر محرمة نصّاً من أول آية نزلت فيها وهي الآية 219 من سورة البقرة ، ولم تكن هناك آية تحلها.
أما الآية ((وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا 67)) النحل . فهي ليست في مورد الإباحة للسكر ، بل في وصف الواقع وذكر أفعال الناس في ما يتخذون من ثمرات النخيل و الأعناب بل إن ورود ((وَرِزْقًا حَسَنًا)) في مقابل ((سَكَرًا)) يكشف أن السكر غير حسن .
أما الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى 43)) النساء . فهي نازلة بعد آيتي الأعراف و البقرة المشار إليهما ، وإذا كان قد ورد فيهما نص على التحريم ، فكيف يأتي في هذه الآية نص على الإباحة في غير أوقات الصلاة ، إن هذا ينافي التدرج المزعوم في التحريم ، فالتدرج عند الزاعمين له هو من الأسهل للأشد ، وهذا عكس ، فهي أجنبية عن الخمر و متعلقة بسكر النوم كما حقق في محله .
وإذا كان الأمر في التحريم واضحاً فلماذا نزلت الآيتان ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91))المائدة . فقال بعض المسلمين : انتهينا .. هل كان هناك عدم وضوح في الحرمة أم إباحة في ظروف معينة حتى وصل الأمر الى الحرمة النهائية ؟ بل أن الآية ((فهل أنتم منتهون)) فيها زجر و تأنيب و تعني ألا تنتهون عما أنتم عليه رغم ما تقدم من بيان واضح في النهي عن الخمر ؟
تأخير المؤاخذة
لما كان شرب الخمر عادة منتشرة في الوسط العربي آنذاك .. ورغم هذه الآيات المحرمة – أو المبغضة على بعض الأقوال – إلا إنهم لم ينتهوا فكان الإسلام يتريث بهم عن المؤاخذة عليه حتى يتعودوا على تركه ، أو يتقبلوا النهي الصارم عنه . فلما تحقق ذلك نزل الأمر بالاجتناب في آيتي المائدة (90/91) ، فلم يكن هناك عذر لأحد في ذلك . وإذا زعم أن هناك تدرجاً ، فالتدرج ليس في التحريم ، بل في التهئية للجزاء ، والحد على مرتكبه بإيراد النص الصارم .
وهذا الأمر ليس مقتصراً على الخمر وحدها بل جرى في أكثر من محرم ، سواء كان النهي الصارم بالآيات أو بالسنة الشريفة .
الربا مثالاً :
فقد نزلت في تبغيض الربا بل وفي تحريمها عدة آيات منها :
1- قوله تعالى : ((وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ 39)) الروم . وهي مكية ، مما يعني أن الربا مبغوض في الشريعة من بداية النزول .. وهو مبغوض كذلك في الشرائع السابقة – قال تعالى عند ذمه لليهود : ((وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ 161)) النساء .
2- قوله تعالى : ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 275 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ 276)) البقرة .
3- قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 278)) البقرة . وهنا نرى التشديد في اكل الربا بحيث لم يرد مثله في الخمر ، فآكله مهدد بالحرب من الله و رسوله .
4- قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 130)) آل عمران .
ورغم هذا الايضاح و التهديد التصريح نجد بعض المسلمين لم ينتهوا عن المراباة حتى خطب فيهم النبي (ص) في أواخر حياته الشريفة وذلك في حجة الوداع أي في أواخر السنة العاشرة للهجرة المباركة .
فقد أورد الطبري في تاريخه (3/24) عن النبي (ص) أنه قال في خطبة الوداع : (وأن كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا وأن ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله).
ويقول ابن كثير في البداية (5/185) – حوادث السنة العاشرة الهجرية من خطبة النبي (ص) في عرفة قال (ص) : (وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله) .
أقول :
تحريم الربا واضح لا ريب فيه من قبل ، وليس هناك تدريج ، وإنما أورده النبي في حجة الوداع لأنه البعض لم ينته عنه ، ولم تكن هناك مؤاخذة ، بل هناك سكوت عنه ، رغم شدة حرمته ، فجاء الإنذار النهائي بتركه في حجة الوداع.
النسيء مثالاً آخر :
قال تعالى : ((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 36 إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ37)) التوبة والأشهر الحرم المشار لها في الآية هي رجب (الذي بين جمادى و شعبان) وذوالعقدة و ذو الحجة والمحرم.
وهذه الأشهر يحرم فيها القتال ، وهي مقدسة ليمكن الاتيان بالعمرة المفردة كما في رجب ، والاتيان بالحج كما في ذي العقدة وذي الحجة و المحرم على ما أسلفنا الإشارة إليه .
ولكن الجاهليين ما كان يروق لهم ذلك فكانوا يحلون هذه الاشهر أحياناً ليستمروا في حروبهم – ليواطئوا عدة ما حرم الله – و يؤجلوا الحرمة لتنتقل الى الأشهر التي بعدها وكذلك يؤجلون الحرمة لما بعد الأشهر الحرم ليكون الحج في الأشهر المعتدلة الجو عندما تقع الأشهر الحرم في الصيف الحار أو الشتاء البارد .
ورغم أن الآية صريحة ، وتعتبر النسيء – أي تأخير الأشهر الحرم عن موعدها – زيادة في الكفر ، فهي شديدة اللهجة ، إلا أن المسلمين لم ينتهوا عن ذلك فرغم أن فتح مكة تم في السنة الثامنة إلا أن النسيء لم ينته إلا السنة العاشرة.
أورد الطبري في تفسيره (10/150) : حدثنا محمد بن عبدالأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن نجيح عن مجاهد : ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ 37)) التوبة . قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين ، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي (ص) بسنة . ثم حج النبي (ص) من قابل في ذي الحجة. فذلك حين يقول النبي (ص) في خطبته : (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الارض) . انتهى .
لعل هذا يكشف لنا سر عدم حج النبي إلا في السنة العاشرة حيث تمكن من بسط يده وانتظر دورة الحج ليكون في ذي الحجة .. نرى أن النبي (ص) قد اعتمر ثلاث عمرات وكلها في ذي العقدة ، عمرة الحديبية (ولم يصل الى البيت) حيث صد عنه ، في السنة السادسة للهجرة ، وعمرة القضاء في السنة السابعة بعد الاتفاق مع مشركي قريش في الحديبية العام السابق ، وربما كان بإمكانه أن يتفق معهم على أن يحج ، خصوصاً ان العمرة التي أجراها هي في أشهر الحج ، ولكن لأن حجهم صادف في غير ذي الحجة ، ربما صرفه ذلك عن الحج . وقد تم فتح مكة في رمضان السنة الثامنة من الهجرة ، وقام الرسول (ص) بالرد على ما أعدته تثقيف بغزوة هوازن ، ثم قسم غنائمهم واعتمر من الجعرانة عمرته الثالثة وقفل راجعاً إلى مكة ، رغم أنها أشهر الحج ولم يحج ، ولعل السبب – والله العالم – أن الحج لم يكن صحيحاً زماناً ، ولم يتمكن الرسول من إعادته الى وضعه . حتى إذا كانت السنة العاشرة عزم على الحج وكان فعلاً في ذي الحجة ، فخطب في منى كما أورد الطبري في تفسيره (10/142) بسنده عن ابن عمر قال : خطب رسول الله في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال – من ضمن خطبته : ( يا أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الأرض ، وإن عدة الشهور إثناعشر شهراً ، منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى و شعبان ، وذو العقدة و ذو الحجة و المحرم .
ملاحظة : قال رجب مضر بين جمادى و شعبان ، لأن غير مضر عندها رجب هو شهر رمضان .
من كل هذا العرض يتبين لنا أن ليس اللحاظ في تحريم بعض الأمور هو التدرج كما زعموا ، بل قد يصبر على التجاوز وارتكاب الحرمة لأسباب عدة ، منها التعود على ذلك المحرم ، أو عدم بسط اليد والقدرة على التغيير كما في الحال في النسيء ، فإذا توفرت القدرة أو أمكن النهي عن العادة تماماً ، جاء البيان النهائي في صورة حكم صارم لا تراجع عنه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق