12- لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى
قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ 43)) النساء.
يحاول بعض المفسرين أن يصنف هذه الآية ضمن الآيات التي نزلت في التدرج في تحريم الخمر . ولن أتطرق لهذا الموضوع هنا ، بل سأقتصر على مفاد الآية و أناقش ما قيل في سبب نزولها.
إن الزعم في أن هذه الآية نزلت لتمنع المسلمين أن يأتوا الصلاة وهم سكارى من شرب الخمر حتى يعلموا ما يقولون ، هذا الزعم معتمد على رواية واحدة فقط ، وعليه لابد من دراسة هذه الرواية سنداً و متنا و دراسة القرائن و الأوضاع الاجتماعية والأحاديث النبوية التي تسندها أو تفندها.
وخلاصة الرواية أن جماعة من الصحابة اجتمعوا قبل صلاة العشاء عند أحدهم فصنع لهم طعاماً و سقاهم خمراً ، فسكروا ، فلما قامت الصلاة قدموا أحدهم ليؤمهم في الصلاة فخلط فيها و حرف القراءة تحريفا يؤدي الى الكفر.
يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف 2/331:
(وقد تتبع الشيخ محمد جواد البلاغي في تفسيره آلاء الرحمن ، وأثبت كذب هذه الروايات بالأرقام ، و تتلخص نتيجة بحثه الدقيق بأن الترمذي روى أن صاحب الدعوة – للعشاء في بيته – هو عبدالرحمن بن عوف ، و أن عليا كان إمام الجماعة ... وروى أبوداود أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار و كان عبدالرحمن من جملة المدعوين ، وابن جرير الطبري قال في تفسيره (انظر تفسيره 5/117) و السيوطي في الدر المنثور : أن إمام الجماعة كان عبدالرحمن بن عوف . وفي الدر المنثور أيضا أن الآية نزلت في أبي بكر و عمر و علي وعبدالرحمن وسعد ، وان صاحب الدعوة هو علي . وفي مسند أحمد و النسائي أن عمر قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا فنزلت : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)) .
وكما اضطربت الروايات في الداعي ، والإمام – للصلاة – والمأموم كذلك تناقضت و تضاربت في الآية التي حصل فيها التحريف ، فرواية تقول : إن إمام الجماعة قال : أعبد ما تعبدون ـ وثانية تقول : بل قرأ ليس لي دين – وثالثة كما في تفسير الطبري 5/115 : قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين ، ورابعة كما في تفسير الكشاف : قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون . وكذلك اختلفت في زمن النزول و سببه . وفوق ذلك كله أثبت صاحب آلاء الرحمن أن الراوي الذي قال : كان إمام الجماعة عليا ، أثبت أنه خارجي ، ومن أعدى أعداء علي (ع)) انتهى .
أقول :
هذه الرواية ، الضعيفة سنداً و المضطربة متنا ، تتناول كبار الصحابة : عليا و أبا بكر و عمر و سعداً و عبدالرحمن بن عوف و آخرين كانوا على مائدة شراب حتى فقدوا عقولهم و قاموا للصلاة لا يفقهون ما يقولون ،أو أن إمامهم هو الذي فقد عقله و أما الآخرون فمسكوت عنهم ، فربما لم يفقدوا عقولهم لاعتيادهم شرب الخمر.
عجيب أن يُتهم كبار الصحابة بهذا الأمر الشنيع بحجة أن الخمر لم ينزل فيها تحريم .
ولنقرأ الآيات السابقة نزولاً لهذه الآية باتفاق الأمة ، فهذه الآية نزلت – بدون خلاف – في المدينة و ظروفها المصاحبة المزعومة تثبت ذلك .
وقد نزلت قبلها الآية 33 من سورة الأعراف : ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ)). فهي نص في حرمة الإثم . ولنأتي بعدها إلى الآية 219 من سورة البقرة : ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)) .
فهي تصرح بأن في الخمر إثماً ، وآية الأعراف تنص على أن الاثم قد حرّمه الله .
فمال كبار هؤلاء الصحابة لا يكادون يفقهون قولا ؟ أليس هذا البيان القرآني كافيا في أن الخمر (الذي فيه الإثم) هو حرام ؟ هل يحتاج الأمر الى ايضاح أكثر ؟ ولذلك تسقط هذه الرواية بغض النظر عن سندها أو متنها ، وهي موضوعة للحط من الصحابة (رض) أو لتبرير شرب الخمر عند بعض ولاة الأمة المنحرفين الذين جاءوا في ما بعد .
أما الآخر الذي يمكن أن يشار إليه فهو :
كيف يقدم هؤلاء الكبار من الصحابة على ترك صلاة الجماعة خلف رسول الله (ص) ليصلوا جماعة في منازلهم وهم يعرفون تشديده (ص) وحثه على صلاة الجماعة في المسجد خلفه.
ويسمعون الإنكار الشديد منه على من يتخلف عن ذلك . حيث روى عنه (ص) أنه قال : (لتحضرن المسجد أو لأحرقن عليكم منازلكم). (وسائل الشيعة 3/376 حديث4). أخرجه ابن ماجه
وعن أبي عبدالله (ع) قال : (همّ رسول الله (ص) بإحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون في منازلهم ولا يصلون جماعة ، فأتاه رجل ضرير فقال : يارسول الله أنا ضرير البصر ، وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك . فقال له النبي (ص) : شُدّ من منزلك الى المسجد حبلاً واحضر الجماعة ) (الوسائل 3/377 حديث 9).
وقال (ص) : ( يوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم) الوسائل 3/377 حديث 10.
وفي كنز العمال حديث 20356 : (لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليس بهم علة فأحرقها عليهم). اخرجه أبوداود.
وأحاديث مثلها كثيرة .
فهل كبار الصحابة هؤلاء الذين تشاغلوا عن الصلاة جماعة خلف النبي – بشرب الخمر – لم يقفوا على هذه الأحاديث ، بل أدهى من ذلك الأحاديث التي تقول : ( إنه من لم يُصل في المسجد فلا صلاة له ) وإذا حمل هذا الحديث على الفضل و شدة الحث على حضور المسجد للصلاة .. فإن هؤلاء الصحابة لا يتركون الفضل ، وهم الذين يدعون الناس إليه .
وعليه فإن تفسير ((سكارى)) في الآية بالسكر من شرب الخمر ساقط سنداً أو متنا وفي سيرة المتشرعة من كبار الصحابة .
يبقى التفسير الآخر شُوِّش عليه رغم رجاحته ووجود الروايات عليه .. وفهم الصحابة له ، وهو أن ((سكارى)) تعني الذين غلب عليهم النوم ، فنهت الآية المسلمين أن يصلوا وهم تحت تأثير النوم لا يفقهون ما يقولون أو ما يسمعون.
وهذا الأمر لا يحتاج الى سبب نزول محدد لأن النعاس أو سكرة النوم تحدث كثيراً لاسيما للذين يجهدون أنفسهم في العمل البدني ، أو في قيام طويل في الليل .
وعلى هذا وردت الروايات و تفاسير بعض الصحابة فمنها :
أورد الطبري في تفسيره (5/116) :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : ((لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)) قال : سكر النوم.
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سلمة عن الضحاك : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)) قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم . انتهى.
وقال صاحب مجمع البيان (3/78) :
ويعضد ذلك ما روته عائشة عن النبي (ص) : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري) انتهى.
و أورد العياشي في تفسيره (1/269) للآية المعنية (النساء 43) عن أبي جعفر (ع) قال : لا تقم الى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً ، فإنها من خلل النفاق ، وإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى ، يعني النوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق